رئيس التحرير يكتب :الذهب بين الصعود والارتداد وسط التوترات الجيوسياسية
في لحظات التحول الكبرى داخل الأسواق، لا تتحرك الأسعار وحدها، بل تتحرك معها التوقعات والنفسيات وتوازنات القوة بين المال والسياسة. ما شهده الذهب خلال الأيام الأخيرة يجسد هذه القاعدة بوضوح؛ هبوط عنيف في جلسة واحدة، يعقبه ارتداد سريع يعكس أن ما جرى لم يكن نهاية الاتجاه، بل اختبارًا قاسيًا لصلابة السوق قبل مرحلة جديدة.
عودة الذهب للمكاسب بعد خسائر حادة لا يمكن قراءتها كحدث عابر أو ارتداد تقني محدود، بل هي انعكاس مباشر لطبيعة المرحلة التي تمر بها الأسواق العالمية مع اقتراب نهاية العام، حيث تتراجع السيولة، وتضعف أحجام التداول، فتزداد التقلبات وتصبح التحركات أكثر حدة وتأثيرًا. في مثل هذه البيئات، تصبح قرارات المستثمرين أسرع، وعمليات جني الأرباح أعنف، دون أن يعني ذلك بالضرورة تغير الاتجاه الأساسي.
على المستوى العالمي، ما زالت الصورة الكبرى داعمة للذهب. السياسة النقدية الأمريكية تقف عند مفترق طرق تاريخي بعد دورة تشديد هي الأعنف منذ عقود، ومع تزايد الرهانات على خفض أسعار الفائدة خلال 2026، تتراجع جاذبية الأصول المدرة للعائد، ويستعيد الذهب مكانته كأداة تحوط رئيسية ضد تقلبات السياسة النقدية وضعف العملات. إضافة إلى ذلك، فإن التوترات الجيوسياسية المستمرة، من شرق أوروبا إلى الشرق الأوسط، تخلق بيئة مثالية لبقاء الطلب على الملاذات الآمنة مرتفعًا، ليس فقط من المستثمرين الأفراد، بل من البنوك المركزية التي تواصل إعادة تشكيل احتياطاتها بعيدًا عن الدولار.
إقليميًا، يكتسب الذهب بعدًا إضافيًا في الشرق الأوسط، حيث يتداخل العامل الاستثماري مع العامل الثقافي والادخاري. ارتفاع الأسعار العالمية ينعكس سريعًا على الأسواق المحلية، ويزيد من حساسية المستهلكين والمستثمرين لأي تحرك مفاجئ. في ظل حالة عدم اليقين الجيوسياسي، يبقى الذهب خيارًا مفضلًا للحفاظ على القيمة، خاصة مع تذبذب أسواق العملات والأسهم في المنطقة.
أما محليًا، فإن تأثير تحركات الذهب لا ينفصل عن السياق الاقتصادي العام. أي موجة صعود قوية تعزز توجهات الادخار والتحوط، بينما تؤدي التصحيحات الحادة، مثل تلك التي شهدناها، إلى حالة ترقب وحذر، لكنها لا تكسر القناعة الراسخة لدى المواطن العادي بأن الذهب يظل مخزنًا للقيمة على المدى الطويل. التراجع السريع ثم الارتداد يمنح السوق فرصة لإعادة التسعير، ويحد من تكوين فقاعات سعرية خطرة، وهو ما يصب في مصلحة الاستقرار النسبي على المدى المتوسط.
الفضة، من جهتها، تقدم نموذجًا أكثر حدة للتقلب، لكنها تكشف في الوقت نفسه عن التحول الهيكلي في الطلب العالمي، خاصة مع تصنيفها ضمن المعادن الحيوية وارتفاع استخدامها الصناعي. تفوقها الكبير على الذهب خلال العام يعكس تغيرًا عميقًا في خريطة الطلب، وليس مجرد مضاربة قصيرة الأجل، وهو ما يجعل آفاقها طويلة الأجل مرتبطة ليس فقط بالسياسة النقدية، بل بالتحول الصناعي والتكنولوجي العالمي.
إن ما نشهده اليوم ليس صراعًا بين صعود وهبوط، بل صراع بين زمنين: زمن المضاربة السريعة في بيئة سيولة ضعيفة، وزمن الاتجاهات الكبرى التي تحكمها السياسة النقدية، والجغرافيا السياسية، وتحولات الاقتصاد العالمي. الذهب، رغم كل التقلبات، لا يزال يتحرك داخل مسار صاعد طويل الأجل، وتصحيحاته العنيفة ليست إلا محطات اختبار قبل مراحل أكثر حساسية. وفي عالم تتزايد فيه الشكوك وتضعف فيه اليقينيات، يبقى المعدن الأصفر شاهدًا على أن الخوف، حين يشتد، يعيد دائمًا الاعتبار لقيمته.

-3.jpg)

